الرئيسيةأخبارعصر التفاهة..بقلم /لواء دكتور أحمد عبد البر… موقع صاحبة الجلالة
أخبارثقافة و فنونمقالمنتدياتمنوعات

عصر التفاهة..بقلم /لواء دكتور أحمد عبد البر… موقع صاحبة الجلالة

شهد المجتمع المصرى مؤخراً تحولات خطيرة فى بنيته الطبقية، حيث برزت طبقة جديدة لا تمتلك جذور إجتماعية أو ثقافية واضحة، لكنها تمتلك ثروات طائلة من مصادر غامضة، بينما تراجعت النُخب التقليدية التى كانت تحمل قيم العمل الجاد والثقافة والأصالة. هذا الإنزياح لم يكن مجرد تغير فى الخريطة الإقتصادية، بل كان تحول مرَضى فى القيم والذوق العام، حيث صعد إلى الواجهة أفراد لا يمتلكون أي رصيد أخلاقى أو فكرى، ومع ذلك أصبحوا النماذج التى يُحتذى بها، فى مشهد يعكس ما أطلق عليه الكندي (آلان دونو) عصر التفاهة، حيث تُختزل الحياة فى المظاهر الإستهلاكية الفارغة، وتُقدس الثروة السريعة بغض النظر عن مصدرها أو أخلاقياتها.
شوهت هذه الطبقة المستجده، التى لا تمتلك من الأصل فصلاً، السياق الارستقرطى فى العهد الملكى، ونموذج النُخبه الناصريه، وهيمنت على المشهد الإجتماعى والثقافى، ليس لأنها قدمت إسهامات حقيقية، بل لأنها تمتلك المال الذى يُشترى به الوهم والوجاهة.
وهنا نجد أنفسنا أمام ما وصفه عالم الإجتماع (بيير بورديو) بالعنف الرمزى، حيث فرضت قيم هذه الفئة على المجتمع ككل، فتُشوه الذوق العام، وتُحول الأخلاق إلى سلعة قابلة للتفاوض داخل الملاهى الليليه.
لقد أصبح الشباب يتطلعون إلى نجوم الصفقات المشبوهة وممثلى العرِى والخناثة والإبتزال، ولاعبى الكرة الذين تحولوا بين ليلة وضحاها إلى رموز للثراء الفاحش، ونواب عن الشعب فى مجالسه النيابية، والراقصات وفتايات التيك توك اللاتى صرن سيدات أعمال، فى سخرية قاتلة من مفهوم المثل والقدوه التى كان يُربى عليه أجيالنا الغابرة.
هذا الواقع هو نتاج ثقافة المال التى غزت المجتمعات في العصر النيوليبرالى، كما يشرح الفيلسوف (سلافوى جيجك)، حيث لم يعد السؤال ماذا قدمت؟ بل كم من المال تملك؟.
لقد تحولت مصر إلى ما يشبه سوبر ماركت كبير يباع فيه العلم كما تباع القيم والأخلاق بأزهد الأثمان، بينما يُنظر إلى المثقفين وأصحاب المبادئ على أنهم متخلفون خارجون عن السرب.
وهذا ما يتوافق مع تحذيرات المفكر المصرى (جلال أمين) من مجتمع الإستهلاك الذى يفقد فيه الإنسان إنسانيته، ويصبح مجرد آلة لشراء وإظهار الثراء.
الأخطر من ذلك أن هذه الطبقة الجديدة لا تمتلك أى مشروع حقيقى لتقدم البلد، فهى تعيش فى فقاعة من الثراء الطفيلى، وهو مفهوم طرحه الإقتصادى (ثورستين فيبلن) فى وصفه للفئات التى تُثرى من الصفقات والعلاقات المشبوهة دون إنتاج حقيقى.
بينما تُدفع الطبقة الوسطى، التى كانت عماد المجتمع، إلى التهميش والفقر، مما يخلق مجتمع هش مشوه أخلاقياً وإقتصادياً، وينهار التماسك الإجتماعى، ويحل محله صراع طبقى غريب، لا يقوم على الصراع بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال التقليدية، بل بين من يملكون المال (بغض النظر عن مصدره) ومن لا يملكون.
ولعل أخطر ما أنتجته هذه التحولات الطبقية هو إنهيار الثقة حتى فى أقرب الروابط الإنسانية، حيث لم يعد الفرد يتردد فى سرقة أقرب الناس إليه إذا سنحت له الفرصة، بل صارت الخلافات على الميراث التى كانت تُحل فى الماضى بالتراضى وحفظ صلة الأرحام ، معارك ضارية يُسلب فيها الحقوق دون حياء، لقد تحولت الطمعية إلى ظاهرة جماعية، كما يصفها عالم النفس (إيريك فروم) في كتابه إمتلاك أم وجود، وأصبح الإنسان مستعد لتدنيس كل الروابط العائلية والإجتماعية فى سبيل سلب المزيد من المال، حتى لو كان على حساب شرف العائلة وتماسكها، فلم يعد الميراث مجرد تقسيم للحقوق، بل تحول إلى غنيمة يُقتتل عليها، فى مشهد يعكس كيف حوَّلت قدسية المال الإنسان إلى كائن أنوى، لا يعرف إلا لغة الجشع، حتى داخل أسرته.
نحن أمام ظاهرة لا يمكن فصلها عن أزمة الهوية التى يعيشها المجتمع المصرى فى ظل العولمة والتحولات الإقتصادية العشوائية. فكما قال الكاتب (على الوردى) .. إذا ضاع المال، ضاع معه الكثير، لكن إذا ضاع العقل، ضاع كل شيء … لقد أصبح المال هو المعيار الوحيد للقيمة، بينما تحولت الأخلاق والثقافة إلى رفاهيات؛ والنتيجة مجتمع يفقد بوصلته الأخلاقية ورموزه العلميه والثقافيه، ويصبح عرضة للإنهيار من الداخل، لأن أى أمة لا تقوم على قيم العدالة والجدارة، مصيرها أن تسقط فى براثن الهمجية الجديدة، حيث يقودها من لا يستحق الى المجهول.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *