الرئيسيةأخباربودلير ومحمد المكي مقاربة نقدية..بقلم / بكري يوسف … موقع صاحبة الجلالة
أخبارثقافة و فنونمقال

بودلير ومحمد المكي مقاربة نقدية..بقلم / بكري يوسف … موقع صاحبة الجلالة

 

شارل بيير بودلير
١٨٢١-١٨٦٧
و
محمد المكي ابراهيم
١٩٣٩- ٢٠٢٤

شارل بودلير شاعر و ناقد و مترجم فرنسي كان له أثرا عظيما علي الكُتاب و الشعراء في القرن التاسع عشر و العصور اللاحقة، لإستلهامة مواضيع شِعره من الحياة الواقعية، و يعتبر حلقة الوصول بين الرومانسيين و الحداثيين، لذا يُعتبر مِنْ أهم مَنْ كتب القصيدة النثرية في الشعر الفرنسي.

عاش بودلير في عصر نيتشه، و هيجل، و كانت، و ماركس، فكتور هيجو، و فلوبير، اغوست كونت، و داروين، و شوبنهاور، و كان فناني عصره هم دافنشي، و مايكل انجلو، و ديلاكرم، و بوجيت.

لهم أعمال شارل بودلير هو أزهار الشر ١٨٥٧. اوقف ديوان أزهار الشر من النشر لاربع سنوات لإنه يهدد الأخلاق العامة، و صُنف بأنه غير أخلاقي. اراد بودلير مفاجأة جمهورة بهذا الديوان، للذين يعتبرون أن شِعرة الجميل قد جعل حياتهم جميلة و انهم منافقون و يعيشون حياة أفضل لأنفسهم فقط.

اهم دواوين بودلير بإلاضافة لأزهار الشر، الليل في باريس، و فراديس مصطنعة، و قصائد أخري.

محمد المكي ابراهيم

شاعر و روائي و دبلوماسي
من مواليد مدينة الابيض. أسهم في ترجمة هموم المجتمع السوداني و آماله و ذكر مناقب الشعب، و التعبير عن طموحاتة و امانية، و اهتم بقيمة العطاء الانساني و الدعوة للنهوض و التقدم.
برع محمد المكي ابراهيم في استعمال الرمزية لتعميق الافكار و العمل علي التغيير و مخاطبة العقول و نشر فضيلة الحرية فجعل لقصائده عقل.
أهم دواوين:
أمتي ١٩٦٨
بعض الرحيق أنا و البرتقالة انت ١٩٧٢
في خباء العامرية ١٩٨٨
الفكر السوداني أصول و تطوره
١٩٦٧
بين الشعر و نار المجاذيب
١٩٨٨
ظلال و أفيال
٢٠٠٣
أكتوبر ٢٠١٤
رواية آخر العنابسة ٢٠٢٥
رواية كوسونجو
تحت الطبع.

لم يكن القصد وراء المقاربة الموضوعاتية ان أُلمح أن محمد المكي ابراهيم، كان مُقلدا أو تابعا (حاشا لله)، و لكنه من تجربة معرفية لعالم شارل بودلير، و تفاعل مع أفكاره و أشعاره بوعي، خاصة أن ود المكي كان يتقن الفرنسية التي قرأ بها أدب و شعر بودلير بتدبر و إيجابية مثمرة و منتجة لحداثة شعرية فيها رمزية فتحت ابواب التنوع، و أن الثقافة ملك للإنسانية كما اوضح الناقد الاديب معاوية محمد نور ( ليست هناك حضارة عربية محضة اولا، ثم حضارة شرقية خالصة ثانيا، و ليس من السهل ان نتكلم في شؤن الفكر و الفن، و نقول هذا لهذا، و هذا لذلك.) و يذكرنا الناقد غنيمي هلال ( لا يستطيع المرء لن يعتقل نفسه، و لا أن يبلغ اقصي ما يتيسر له من كمال، إلا بإجلاء ذهنه بأفكار الآخرين، و بالأخذ المفيد من آراءهم و دعواتهم). غنيمي هلال-الادب المقارن.

من أبرز الشعراء الرمزيين الملتزمين بالشعر الحُر، و ذلك من خلال تأثير شارل بودلير و ت.س. اليوت و غيرهم، سعيد عقل، و رشدي معلوف، و يوسف الخال، و بدر شاكر السياب، و نازك الملائكة، و صلاح عبدالصبور

كان بروفسير عبدالله الطيب متخوفا من تأثير الادب و الشعر الغربي علي الآداب العربية و اشار الي ذلك في مقال له (الفتنة بالشاعر ت.س اليوت خطره علي الادب العربي عموما).

إحدي تقنيات الصنعة الشعرية عند بودلير و محمد المكي، هي المعادل الموضوعي، و ذلك بإخفاء عواطف الشاعر الشخصية من خلال صورة موضوعية خارجية ترمز لهذه المشاعر الشخصية مثل الورود، و البستان ، و الليل و القمر، و العنادل، و قلب القمحة، و الفقر، و القرنفل، و زهرة اللوتس و غيرها.

يمكن للقاريء أن يلحظ تأثير المدرسة الغربية في شِعر و فِكر ود المكي من خلال القصيدة النثرية، و الغموض في الشعر الذي يتيح للقاريء أن يعيش في عوالم الشاعر و فكرة و منهجة و سياقات شِعره و تنمية نوع من الرغبة النقدية من خلال النصوص.

نجد أن بودلير يسرف في تفاصيل جسد المرأة و التغني به، و كيف استطاع أن يجمع بين المتناقضات، جمال المرأة يشبهه بالجثة النتنة، و اعتقادة أن الشر يمكن ان يخرج منه جمال ، و الجمع بين القبح و الجمال بتصوير غريب و محير لا يخلو من دهشة ممتعة.
عموما إن القراءة لبودلير تحفز للتفكير العميق و استخدام المقاربة الموضوعاتية لتحليل المواضيع الشعرية ، لفهم السياقات و النصوص و لتفسير المعاني.
في أزهار الشر (أشهر دواوينه) حاول بودلير إخراج الجمال من الخبث و إدعاء المثالية في الحياة و الهروب من الواقع كتعاطي الافيون و الشعر و الحب لتحقيق الأثر النفسي القاسي للفشل في الحب و الحياة السوية.

ربط بودلير بين الحب و الموت عندما يمرر يديه من خلال شَعْر المرأة من اجل استحضار عالمة المثالي و يقارن بينهما و بين حيوان متحلل، و حتي عندما يحب يكون خائفا من الموت.
عندما يتحدث بودلير عن الاخلاق، يأخذك لعالم الواقع الماثل بتخيل و إدعاء البعض لهذه الفضيلة و في واقع الأمر يكون مختلفا رغم الادعاء.
يقول بودلير في ذلك:
(أغبياء البرجوازية يتشدقون دائما بكلمات من قِبيل “لا أخلاقي” “لا أخلاقية”. الأخلاق في الفن و غيرها من الحماقات يذكرونني “لويز فيلديو” و هي عاهرة بخمس فرنكات، رافقتني ذات يوم في زيارة الي اللوفر، و كانت تلك اول مرة تزور فيها هذا المتحف، فإحمّر و جهها و راحت تغطيه بكفيها، و تجذبني من كُم السترة، متسائله أمام اللوحات الخالدة، كيف أمكن عرض كل هذه العَوْرات علي الناس.)

و أيضا يقول بودلير:
(إنني اتمتع بإحدي الشخصيات المحظوظة التي تستمد البهجة من الكراهية، و التي تتمجد في الإحتقار، و مزاجي المولع بثورة شيطانية بالحماقة، يجعلني اجد ملذات خاصة في تحريف البهتان، طاهرا كما الورق، بسيطا كالماء، مدفوعا بالورع مثل مقدمة الغربان، غير مؤذ كضحية، لن يزعجني ان أُدعي ماجنا، أو سكيرا، أو ملحدا و قاتلا.)

من الفشل و الندم في هروب من الواقع يرسم بودلير حالة متخيلة من السعادة و النشوة و الشهوانية، للتعبير عن عاطفتة و كل شؤن حياتة، و من خلال شِعره نجد انه يخلق تلك المواءمة بين الشرطة الشعري و الشرطة الانساني الذي يصنع الشاعر الحقيقي، برغم ما يمر به من مآسي و حزن، يحاول أن يصنع منه فرح و أمل.

كان محمد المكي متفاعلا و متأثرا ببودلير، لكن هناك ملاحظة مهمة في إنضباط ود المكي بالموروث و تأويل التراث السوداني بشعر فيه سودانوية كما كان يدعو لها حمزة الملك طمبل و طبقها شيخهم محمد المهدي المجذوب و أجاد فيها صلاح احمد ابراهيم و وجد الاخير الاشادة من بروفسير عبدالله الطيب كرائد للسودانوية في الشعر. (ب. محمد المهدي بشري)

سأورد نصوص شعرية لبودلير و محمد المكي و علي القاريء أن يلحظ و يميز و يستوعب التقارب في الافكار و الرمزية الجميلة و استخدام المعادل الموضوعي و الاختباء خلف الطبيعة و المخلوقات و الاشياء، و فن اللغة الشاعرة في تطويع التشبية للوصف و التصوير لوصف المشاهد و المواقف بطريقة تفصيلية حيّه و إثارة خيال القاريء بشغف.

بودلير:
الضجر النقي من الحياة (القرف)
أنا غرفة انتظار عتيقة
مليئة بالورود الذابلة
يملؤها خليط عجيب
من ازياء فات زمانها
و لا يتنفس فيها عبير عطر
مسكوب

العدو:
ستجد في التربة المغسولة كالرمل
العدو الغامض الذي ينهش قلوبنا
علي دمنا المسفوح ينمو و يقوي

الشيخ:
كالملائكة ذات العيون الوحشة
سأعود الي مخدعك و أتساءل اليك
بغير جلبة مع ظلام الليل

يقول في خلاسيته جين دوفال (فرنسية كاريبية)

إنها في صوتي هذه الصيّاحة
إنها في دمي، هذا السم الأسود
أنا المرأة المشؤمة
حيث تنظر المرأة الشريرة الي صورتها
أنا الجرح و السكين و الصفعة و الخد
أنا الاطراف و دولاب التعذيب
و الضحية و الجلاد

المسوس:
الشمس تتلفح بغلالة رقيقة
فإتشِح مثلها يا قمر حياتي بالظلام
نامي أو فذحِّني علي هواك

الفانون:
أنا جميلة جمال حلم من حَجَر
و نهداي اللذان لم يسلم احد من عذابهما
خلقا ليُلهما الشاعر حبا خالد و صمتا
كصمت المادة الخرساء
إن أجلس علي عرش السماء
كأبي الهول صامت

الشموس اللامعة:
فقد عبث المطر و الرعد ببستاني
فلم يتقيأ فيه إلا القليل من الثمار
الذهبية
و هذا إن افكاري قد بلغت خريفها
لا بد لي من استعمال الرفش و المسلّقة
لأعيد تنظيم هذه المزارع
التي غمرتها المياة
و حُفرت فيها حفرا واسعة كالقبور

أشعار محمد المكي ابراهيم:

الشرفة القديمة:
سأعود في كيف سيف الرفض و الرؤية
و في عيني امجاد الحياة
لا ترهبوا هذا التعري في جبين الشمس
لا تتنصلوا من محنة العصر الجديد
في قلبها ابدا و من فتكاتها نحيا نموت
و نصنع البعث الجديد و نجتلي شرف الوجود

هايدي أمتي:
أنا فارسها القادم من رأس المدار
من بلاد تأكل الجوع و تقتات الدوار
جارحا يطعن حتي اللون و العطر و شتلات الإزار

الوعي.. أمتي:
عذراء كقلب القمحة أمتنا
الألسن و الشهوات هنا عذراء
اجفان الناس مكحلة بالعفة و الإغضاء
حتي صيحات اللذة عند عواهرنا عذراء
محض غثاء صوت الشاة أو الغنم
– اواه حلمي يطيش
و ها أنا متوجه نأيا يحول تعزيا
نسكا.. سأرقص و أشرب الخمر الزؤام
أسب تاريخي هناك تشفيا
اواه..ما فوق النكوص يشُل أقدامي
و يرجعني إليك مصليا
متنكبا رمحا أُطاعن صخرة
و لا انتمي ابدا إليك مصليا
لا انتمي ابدا إليك و لا اطيق تخليا
سأظل اخرج هل هنا
حتي يموت توهج الحمي
و ينطفئ الشباب

ليلة قمراء:
ظل هذا القمر العابث
طول الليل يستغوي الحقولا
ناثرا فضته الزرقاء
ممدودا علي اوراق زهرة
و بإبريق رخام
ظل حتي احتقن السمسم و نام
أمتي:

بثدييها يلوذ الجرح
يلعق عاره ابن السبيل
و يفرح الغرباء
بثدييها مشاوير السدوم توقد الحميّ
و توق النبض في الأشياء

الوعي و الحلم و الغضب..أمتي :
الليلة إفريقيا فتحت دغلا
فتحت دربا
اخذتني بالأخضان
هذا نجد الإنسان
أن يأكل قبل المدخنة
و يصفِّر قبل القاطرة
و ينام علي قلب اخيه الإنسان.

القصيدة النثربة كنمط شعر عالمي حققةكثير من النجاحات، و فتح أبواب الإبداع في الادب العالمي. و شكل نوع من المثاقفة للشعراء العرب، و وجدوا فيه ما ينقصهم و ذلك للوهن الذي اصاب الادب العربي لثباته علي شكلة القديم التقليدي، كان لابد ان تجد القصيدة النثربة مكانة عند الادباء العرب ليعبروا بطريقة حداثية ليواكبوا عجلة الزمن المسرعة.
ساهمت الترجمة كثيرا في تغلغل تأثير القصيدة النثرية.

أوضح مثال لذلك ما خطة قلم يوسف الخال عن قصيدة النثر و تأثير باريس عليه و علي آخرين من جيلة ( لقد أتاح لي جو باريس ، و انصرافي التام إلي حياة الفكر و الشعر و الفن، و ما يرافقها من صفاء و تفتح علي الجمال بكل انواعة أن اتوصل الي بعض المشاكل الشعرية و الفكرية التي كانت تقلقني في السنوات الاخيرة، و سيبدو جليا في النتاج٨ الشعري الذي كتبته خلال هذه الفترة و الذي سأكتبه في المستقبل).

بكري يوسف البُر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *