الرئيسيةأخبارأوجاع صاحبة الجلالة.. حكاية مهنة تُصارع الموت «1».. بقلم/ حماد الرمحي… موقع صاحبة الجلالة
أخبارثقافة و فنونمقال

أوجاع صاحبة الجلالة.. حكاية مهنة تُصارع الموت «1».. بقلم/ حماد الرمحي… موقع صاحبة الجلالة

 

«صاحبة الجلالة».. لقب تُوّجت به الصحافة المصرية دون غيرها، لما كانت تتمتع به من قوة خارقة للعقول، ونفوذ عابر للحدود، حتى حكمت الوعي لعقود طويلة، وسادت عرش التأثير، واحتكرت صناعة الرأي العام في مصر والشرق الأوسط لقرون، وانحنت أمام عرشها البرلمانات التشريعية، فجعَلَوها في الدستور «السلطة الرابعة».

لم تكتفِ صاحبة الجلالة باعتلاء عرش القوى الناعمة المصرية التي اخترقت شعوب ووجدان الوطن العربي والشرق الأوسط وإفريقيا، بل تحوّلت الصحافة المصرية إلى قوة اقتصادية مؤثرة في الاقتصاد القومي، حتى بلغت قيمتها السوقية في عام 2016 نحو 3 تريليونات جنيه، وهو ما يعادل اقتصاديات العديد من الدول الصغيرة.

إلا أن هذه الصناعة التاريخية العملاقة تقف اليوم على حافة الهاوية، بعد أن فقدت بوصلتها، وكُسرت بفعل فاعل شوكتها، ولم يبقَ من صوتها الصادح إلا أنينها وصرخات استغاثتها، بعد أن بلغت خسائرها السنوية أكثر من 20 مليار جنيه، وانخفض عدد الصحف من 142 صحيفة عام 2010 إلى 61 صحيفة فقط في 2021، بنسبة تراجع صادمة بلغت 57%، فضلًا عن انهيار توزيع النسخ الورقية بنسبة 75%، وتحديدًا من مليار نسخة عام 2010 إلى 252 مليونًا فقط في 2021.

إن الصحافة المصرية تعيش اليوم زمنًا عسيرًا، ومخاضًا قاسيًا، قد يكون مقدمةً لميلاد جديد، أو بدايةً لفقدان تاريخي مرير، بين مطابع توقفت، وأقلام تجف وتتوجع، وقرّاء يفرّون، ومؤسسات تترنح.

إن صناعة الصحافة في مصر تحتاج إلى وقفة جادة من كافة الجهات المعنية بهذه الصناعة، بدايةً من المؤسسات الصحفية، والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، والهيئة الوطنية للصحافة، ونقابة الصحفيين، وكافة المعنيين بهذه المهنة.

إن بداية علاج الأزمة، وإنقاذ تلك الصناعة الرائدة، يستلزم أولًا تشخيص الأمراض التي تنهش في جسدها، والتي يمكن حصرها في النقاط التالية:

أولًا: انكسار التوزيع وانحسار الإعلانات
كانت الجريدة تُقرأ صباحًا كصلاة يومية، أما اليوم فقد أصبحت أوراقها تُكدّس في الأكشاك، لا تجد من يشتري، ولا من يطالع، والإعلانات التي كانت ترعاها انسحبت في صمت إلى المنصات الرقمية، فتُركت الصحف تواجه عُريها المالي.

ثانيًا: أزمات مالية بلا ضفاف ولا ضوء
المؤسسات الصحفية العريقة باتت تئن من الديون، وتعجز عن سداد مستحقات العاملين، الرواتب تتأخر، الإمكانيات تتلاشى، والحلم يتحول إلى عبء ثقيل يُهدد البقاء، لا تمويل رشيد، ولا رؤية اقتصادية تنقذ الكيان من الغرق.

ثالثًا: الصحفي بين الأمل المؤجل والواقع المؤلم
الصحفي المصري، حامل رسالة التنوير، يعيش في ظل بيئة طاردة، لا تحفظ له كرامة مهنية، ولا توفر له أمانًا اجتماعيًا، مرتبه لا يكفي، ومكانته تتراجع، ودوره يُختزل في عناوين سطحية لا تُشبع عقلًا، ولا تلامس وجدانًا.

رابعًا: الحرية… الحلم المؤجل
لا صحافة بلا حرية، ولا مهنية بلا استقلال، وإذا خُنقت الكلمة، ماتت الرسالة، وتحوّلت الصحف إلى نُسخ باهتة من بيانات رسمية، لا تُحرّك قارئًا، ولا تُثير رأيًا، فالحرية ليست رفاهية، بل هي العمود الفقري الذي تستقيم به الصحافة في أي زمان ومكان.

خامسًا: جمود إداري وفقر في الإبداع
مؤسسات صحفية تُدار بعقلية الأمس، في زمن يتطلب جرأة المستقبل، لا تدريب، لا تحديث، لا استثمار في الطاقات الشابة، بل إقصاء ممنهج للكفاءات، واحتكار للمناصب، واستنساخ مستمر للأفكار ذاتها.

سادسًا: رقمنة متعثرة ومحتوى بلا روح
في عصر الرقمنة، لا تزال الكثير من الصحف تُدير موقعها الإلكتروني كنسخة مشوهة من النسخة الورقية، لا محتوى بصريًا، لا تفاعلية، لا فهم للجمهور الرقمي، مع غياب تام لفكرة التصالح والاندماج مع الذكاء الاصطناعي، وإهمال متعمد لصحافة البيانات، وكأننا نعاند العصر أو نُدير له ظهورنا.

سابعًا: جمهور يُعزف عن القراءة… أم صحيفة تُعزف عن التطوير؟
القراء لم يختفوا، بل الصحف هي التي تأخرت عنهم، لم تعد تتحدث بلغتهم، ولم تعد تُلامس اهتماماتهم، الشاب المصري يُريد محتوى يُشبهه، يُحاكي طموحه، يُحترم ذكاءه، ويُلامس قضاياه، ومن لا يُدرك تغيّر الجمهور، فلا حق له في مخاطبته.

ثامنًا: ميثاق المهنة يُغتال كل يوم
في زحام السرعة، واللهاث وراء «التريند»، تاهت القيم الصحفية الأصيلة، وغاب التثبت، وحضرت الإثارة الرخيصة، ففقدت الصحف هويتها، وتقلّص دورها من صانعة للرأي إلى ناقلة للهوامش والهلوسة الصحفية.

في الحلقة القادمة سنبدأ في رصد أمراض المهنة وتحليلها، والوصول من خلالها إلى حلول علمية، وإجراءات واقعية، لإنقاذ صناعة الصحافة وعرش صاحبة الجلالة التي تُعد واحدة من أبرز دعائم القوى الشاملة للدولة المصرية.

د. حماد الرمحي
خبير التحول الرقمي في الصحافة والإعلام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *