هذه المقالة معالجة أولية ضمن مشروع أطروحة الدكتوراة التى أعمل عليها حالياً، والتى تتناول التأثيرات الإستراتيجية للمعلوماتية والتقنيات السيبرانية فى إدارة الأزمات، مع التركيز على أبعاد إستراتيجية الأمن السيبرانى كمتغير وسيط فى بنية القرار والسيادة الوطنية.
بإختزال الرؤية الإستراتيجية للعقائد العسكرية المعاصرة فى ميادين الأمن القومى، يتضح أن الحرب المعلوماتية ليست وليدة عصرنا الرقمى فحسب، بل هى إمتداد لنمط صراع ضارب بجذوره فى عمق تاريخ المواجهة البشرية؛ لقد شهدت الحروب عبر العصور محاولات حثيثة لزرع الشكوك، وشل منظومات الإتصال، وزرع الوهم فى إدراك العدو لطبيعة التهديد ومصادره، إلا أن عصرنا الحالى بتقنياته الرقمية المتسارعة، نقل هذه المواجهات من خلفيات ميادين القتال التقليدية إلى فضاءات أثيرية متشابكة، تتقاطع فيها الكيانات الإلكترونية مع البنى التحتية الدولية، وتتحول فيها الأنظمة السيبرانية إلى جبهة قتال خلفية لا تقل ضراوة عن مسرح الحرب الفعلى.
فى عالم تتداخل فيه الحدود بين العدو والصديق، وبين المدنى والعسكرى، لم تعد أدوات الصراع تعتمد على الآليات العسكرية فقط، بل أصبحت تستند إلى شفرة معلوماتية واحدة قد تنسف توازنات إقتصادية أو تدمر منظمومة إجتماعية قومية وتستهدف صميم الدولة؛ فى ظل ما يسمى بالحرب السيبرانية الباردة، أصبحت الدول عرضة لإختراقات متكررة تمس كيانها الهوياتي والسياسى والمجتمعى، ولم يكن هذا ليتحقق لولا تداخل التكنولوجيا المتقدمة مع التوسع غير المنضبط فى التجارة الرقمية والتدفقات المعلوماتية العابرة للحدود.
وفي مقابل هذا التحدى أصبحت تكنولوجيا المعلومات والإتصالات ميدان صراع مزدوج، فهى سلاح هجومى بالغ الدقة، وهدف إستراتيجى بالغ الهشاشة فى آن واحد؛ وقد التقطت العقليات العسكرية الحديثة هذا التحول، فأدرجت الفضاء السيبرانى ضمن خرائط المواجهة إلى جانب البر والجو والبحر والفضاء الخارجى؛ فالقدرة على شل دفاعات الدولة لم تعد رهينة قوة نارية، بل أصبحت متوقفة على القدرة على تعطيل شبكة، أو التلاعب ببيانات، أو خلق واقع إفتراضى يُسقط العدو دون طلقة واحدة.
وفى هذا السياق تأتى الثورة الصناعية الرابعة كمعلم فارق فى مسيرة تطور قوى الدولة الشاملة، حيث إندمج الذكاء الاصطناعى المتقدم، وإنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والأتمتة، ضمن بنية الإقتصاد والسياسة والتأثير العسكرى؛ وقد حفزت هذه الثورة معدلات غير مسبوقة من النمو، وخلقت فرص جديدة، لكنها أفرزت تحديات هائلة تتراوح بين تفشى البطالة، وتعمق الفجوة الرقمية، وظهور جيل رقمى قد ينفصل كلياً عن واقعة الطبيعى.
لقد تجاوزت التكنولوجيا كونها أداة مساعدة لتصبح منظومة قائمة بذاتها، تخلق إقتصاد رقمى، ومعرفة رقمية، وسلطة رقمية، وإرادة قد تنفلت من قبضة صناع القرار التقليديين؛ بل إن بعض رؤى المستقبل تتنبأ بثورة خامسة يكون فيها الذكاء الإصطناعى التوليدى هو المحرك الوحيد، والإنسان مجرد مشاهد أو ضحية محتملة على هامش هذه المعادلة.
وفى ظل هذا المشهد الجيوسيبراني الهجين، تصبح الحرب النفسية الإلكترونية والتجنيد الرقمى والإستهداف المباشر للبنية التحتية القومية أدوات ضغط تتطلب من القيادات السياسية والعسكرية أن تعيد تعريف مفاهيم السيادة والأمن القومى؛ فالهجوم السيبرانى لا يعترف بحدود، ولا يترك بصمات مباشرة، وقد يستخدم شبكات مظلمة وتشفير عميق يحيل دون تعقبه؛ فالسيادة فى عالم ما بعد الإنترنت أصبحت مفهوم مرن، لا يُحسم بالسلاح، بل بالخوارزميات.
وإستناداً إلى هذا فإن مفهوم القوة السيبرانية لا يجب أن يفهم بمعزل عن أدوات الدولة التقليدية، بل يجب أن يدرج ضمن مصادر قوتها الشاملة، مستفيداً من مواردها البشرية، وقدراتها التقنية، والهيمنة على فضاءات البيانات، فى سياق منظم يدار بعقلية إستراتيجية مدركة لديناميات الصراع فى زمن غير متناظر.
ورغم الجهود الفردية للدول، إلا أن الطبيعة المتجاوزة للحدود والهوية التى تتسم بها الهجمات المعلوماتية تجعل مواجهتها مرهونة بإرادة دولية، ونظام أمن معلوماتى قومى مهيكل، يعمل وفق قواعد إشتباك سيبرانى واضحة، ويخضع الفضاء الرقمى للمساءلة القانونية والدبلوماسية؛ ومن هنا بات ضرورياً أن تتضافر الجهود الدولية لوضع أُطر حوكمة معلوماتية، وصياغة معاهدات رقمية، تُنظم آليات الاشتباك في الفضاء السيبراني، وتُخضعه لقواعد قانونية عادلة، تضمن العدالة دون تقويض الابتكار.
فالعالم يقف على مفترق طرق، إمّا أن يحصّن نفسه ضد الطلقة التى لا تُسمع، أو أن يستيقظ ذات يوم على صمت رقمي عميق… لكنه قاتل.