هناك الكثير من الأحداث في تاريخ السودان كررت نفسها بذات الطريقة مع اختلاف الشخوص، و لكن الوقائع و المآلات نفسها، لتخرج المحن من شقوق التاريخ.
يقول كارل ماركس (التاريخ يعيد نفسه، أولا كتراجيديا، و ثانيا كمهزلة)
يقول لنا التاريخ أن محمد ابو لكيلك ساهم في خلع عرش بادي ابو شلوخ و تنصيب ابنه (نصر)بالرغم من ضعفه.
انتصارات ابولكيلك علي زعماء ممالك المسبعات في كردفان جعل له دورا محوريا في امكانية التغيبر السياسي بالقوة العسكرية.
ذكر جاي سبولدنق في كتابة (عصر البطولة في سنار)، أن الهمج (الجنجويد) و من منطلق الانتصارات علي المسبعات (لاحقا قوز دنقو) صار لهم الأمل في الحكم لشعورهم بالتهميش و الإضطهاد (دولة ٥٦).
تزعم ابولكيلك راية التغيير و تم استغلاله من بعض رجال الطبقة العليا, ليؤول لهم الحكم مستغلين قوة و جبروت ابولكيلك.
كما اوضح سبولدنق أن إنقلاب ابولكيلك يعبر عن “قوي جغرافية (جبال النوبة)، لاحقا دارفور) حققت بعض الانتصارات و نزعت للمزيد من السيطرة و فرض الرأي و السعي للهيمنة السياسية و الاجتماعية بقوة السلاح.
يقول بروفسير يوسف فضل (من نتائج خلع السلطان بادي ابو شلوخ و تنصيب ولده نصر، صارت السلطة إسميا في يد “نصر”، و السلطة الفعلية في يد الهمج).
جاء في كاتب الشونة (و اندلعت نيران الفتنة و إشتد اوارها و إنقسمت البلد إلي معسكرات تتطاحن في عراك مستمر) لاحقا “الوثيقة الدستورية”.
كان لإنتصارات حميدتي في قوز دنقو و كسر شوكة تمرد حركة العدل و المساواة و بعض الحركات بدارفور بداية الإحساس بالقوة و التفوق، مستفيدا من الصراع بين قيادات الإنقاذ حول السلطة، مما أتاح لحميدتي لأن يتمدد اكثر لعدم وجود مصد سياسي أو أمني لطموحاته .
الفريق البرهان كان يعلم نقاط قوة حميدتي فحاول إتباع سياسة الإحتواء، و لكن
شَرّه حميدتي للسلطة و احساسه بالقوة و التفوق حال دون نجاح خطة الفريق البرهان في احتوائه.
إعتقاد حميدتي و بطبعة البدوي و رقة التدين و نزق الاعتقاد في الفُكيا (الفَكِي) الذين سيطروا عليه و هم معه في حِله و تِرحالة يكتبون له الطلاسم و التعاويذ لبلوغ الحكم و الحماية من كل مكروة، و من ذات المنطلق يذكر عبدالله رجب في مذكرات اغبش بحدث ايام السلطة الزرقاء و قصة القاضي “دشين الذي يقول لصاحب السر الباتع افسخ عقد الزوجة الجديدة فإنها لا تحل لك. يقول الولي: قلت ليك ما بفسخها…يفسخ جلدك، و ينفسخ جلد القاضي دشين و قع ذلك بعد فتواه.
مذكرات اغبش ص ١٤٤.
كان ذلك في زمن الشيوخ و الاولياء و الامتثال لاوامرهم ايام مملكة الفونج، ايضا واقعة طلب بادي ابو شلوخ، و مشورة ادريس ود الارباب في حرب الشيخ عجيب، أقره و تنبأ له بالنصر. كذلك كررها حميدتي بذات الطريقة، و إنقياده لمشعوذين هذا العصر، يقيني أنه لم يبدأ الحرب الا بعد إستشارتهم.
حرب اليمن اعطت حميدتي علاقات ذات بُعد خارجي كان يفتقدها لتوطيد حلمه في الحكم، و صادفت ذلك هوي بعض الدول الخليجية في تنفيذ اجندتها الاقتصادية و مشروع الهيمنة الاقليمية (القرن الإفريقي), بأقل التكاليف، لأهمية الخرطوم و تأثيرها علي مجمل الخطة كرأس الرمح في تنفيذ أي مخطط في المنطقة.
بتتبع الأحداث و الوقائع و وجه الشبه بين الأمس (ابولكيلك)و اليوم (حميدتي)، وجب أن تدفعنا الأحداث التاريخية لدراسة حقائقها و تفكيك ظواهرها لنتعلم من التاريخ و عدم تقليد الافعال و المفاهيم المغلوطة، و تكرار نفس الخطأ، و إن اختلفت الأدوات، وبنفس الواقع المأزوم من تهميش و حب السلطة بدون توفر مقوماتها، و تشرذم النخب الحاكمة، و الاختلافات السياسية غير الرشيدة التي أدت إلي استفحال الأزمات حتي دخلنا في حرب فُرضت علينا و لم نقدر علي أن نسيطر عليها لبعدها الإقليمي و العالمي.
علي الأجيال أن تعي دورها و أحقيتهم في الحكم الديمقراطي و أن يبذلوا الغالي و النفيس من أجل رفعة و علو شأن السودان بين الأمم، و تكون مشعلاً للتطور و الإتحاد لآفاق الإزدهار و السؤدد، و أن لا نكون كما قال المفكر الافريقي نايريري
(المثقف الإفريقي، مثله مثل الرجل الذي جمعت له القرية كل مالها و أرسلته ليأتيها بطعامها، فذهب و لم يعد).
و مقال محمد عشري الصدِّيق نشر في حضارة السودان ١٩٢٥ لاحظ التاريخ، يا هداك الله، و مواكبته للحاضر و بعد مائة عام من كتابته يقول:
( لا يزال عظماؤنا هم عظماء الفتك و الحروب و التدمير، فلا شاعر و لا فيلسوف، و لا كاتب، و لا فنان، و لا مصلح في تاريخ هذه البلاد، و ليس من بيننا من يُعد من رجال العلم أو العمل، و ليس للسلم عندنا من انتصارات كما للحرب، ارضنا واسعة جدباء، ليس عليها آثار العبقرية و النبوغ إلا النُذر اليسير.)
بكري يوسف البُر
مايو ٢٠٢٥